في بيئات متجاورة تتقارب الأعراف وتتداخل الثقافات ويتأثر بعضها ببعض ، وفي بلاد العراق التي أتسم إقليمها بالعلاقة بين السهل والجبل ، بين أقليم الجبال وأرض السواد أبتداءً من عصور ما قبل التاريخ ومروراً بالسومريين والاكديين والبابليين وحتى وقتنا الحاضر ، تعانقت الثقافات وتبادلت الآثنيات محاسن نتاجاتها وصناعاتها وأعمالها اليدوية والفكرية رغم خصوصياتها ، وأنتجت حضارات رائعة خلدها الزمن . مابين الجبل والسهل في العراق علاقات حميمة ولعل أقدم علاقة صميمية من هذا النوع وقعت في القرن السابع ق.م عندما تحالف الميديون الكورد مع جيرانهم البابليين في عهدي الملكين (كيخسرو) الميدي و (نبو بلاسر) البابلي في عقد عسكري ضد دولة أشور التي أذاقتهم المر آنذاك . وقد أدى ذلك التحالف فضلاً عن إسقاط الدولة الآشورية عام (612 ق. م) الى تعزيز العلاقة والمصاهرة بين العائلتين الملكيتين الميدية والبابلية فقد طلب (نبو بلاسر) ابنة الملك الميدي لأبنه (نبوخذ نصر) وعندما نقلت العروس الميدية (أماتيس) الى بابل تطلب الأمر من الملك أن يبني لزوجتهِ الجبلية قصراً أشبه بالجبل ، فأبتكر البناؤون البابليون والميديون والفرس واليونان بناء الجنائن المعلقة للعروس الكوردية ، هكذا أدى تزاوج الحضارات الى نتاج صرح حضاري خلده التاريخ ...
في هذه البلاد حيث يعيش الكورد في أقليم كوردستان مكونين مع أخوتهم العرب في الوسط والجنوب دولة العراق الاتحادية المتطلعة للحياة الديمقراطية الحرة ، يزدهر التراث الكوردي الذي خلدهُ التاريخ هو الآخر ليكون مع التراث العربي فيه مزيجاً من الثقافات المتوارثة المتفاعلة بألوانها واطيافها وروائعها . هنا لابد لنا من أن نتحدث بشيء من الموضوعية عما خلفته السنون من تراث وفولكلور الشعب الكوردي الذي صور الحياة الكوردية بكل سماتها وصورها واحداثها الرائعة المؤثرة . يتضمن الفلكلور الكوردي أحداثاً هامة وشاملة لحياة الشعب الكوردي السالفة عبر القصص الشعبية والأشعار الملحمية والأمثال والحكم والأساطير والحكايات والطرائق والنكات ، فهي تمثل صوراً شتى للحياة العامة في هذا المجتمع العريق بما في ذلك فنونهُ واحتفالاتهِ وسلوكهِ . ولعل أول من أستخدم مصطلح الفلكلور هو عالم الدراسات الإنكليزي وليام جون توماس في سنة 1846 ويرجع أصل هذا المصطلح الى أصلين سكسونيين هما ( فولك ) ومعناها الشعب و ( لور ) أي الدراسة أو العلم . ويراد بهذا المصطلح الادب غير المكتوب لشعب من الشعوب كالأساطير والأفكار الشعبية والحكم المتداولة وكل ما يعبر عن أحوالهم ، كما يتخذه البعض مفهوماً شاملا للثقافة الشعبية ليدخل ضمنها الفنون والحرف الشعبية والطقوس الدينية والاحتفالات وكل ما يشير الى نفسية ذلك الشعب وسلوكه وخلقهِ وحياتهِ الاجتماعية والاقتصادية ! والغريب في الأمر أن كل الاشعار الفلكلورية والامثال والحكم والعديد من الملاحم الشعرية والغنائية في التراث والفلكلور الكوردي لا يعرف مصدرها الأصلي أو مؤلفها أو قائلها رغم انتشارها ، لهذا فهي في المحصلة تعتبر من نتاج فكر الامة الكوردية بأجمعها تناقلتها اجيالها جيلاًَ بعد جيل ، ولأن هذا الموضوع شائك وطويل فأننا سنتناول الفلكلور والتراث الكوردي من هذه الزوايا حصراً
الأقاصيص الشعبية /
يعتبر هذا النوع من التراث من روائع الادب الكوردية ، قد تكون مأساوية (تراجيدية) أو كوميدية أو تعبير عن البطولة أو حالة انسانية وطنية مثل أقصوصة (ممي الآن) (ومم وزين) .
عيد النوروز /
هو أهم الاعياد القومية للأمة الكوردية فهذا العيد (اسطورة كان أم واقعاً) ترتبط بحدثين هامين أولهما فلكي يرتبط بيوم 21 آذار وهو يوم تعامد الشمس على منتصف الكرة الارضية (خط الاستواء) جالبة الاعتدال الربيعي الى نصف الكرة الشمالي الذي تقع فيه كوردستان ، والاعتدال الخريفي الى النصف الجنوبي حيث تتساوى فيه ساعات الليل والنهار وينقشع البرد والزمهرير ، وتبدأ الزهور بالتفتح وتكتسي الطبيعة بلونها الاخضر والملون فهو عيد الربيع . والحدث الثاني يرتبط بثورة (كاوه الحداد) الرمز الذي حرر الشعب الكوردي في التاريخ القديم من ظلم وطغيان الحاكم المستبد (الضحاك) فهو يوم يرمز للتحرر والانعتاق من السلطة الدكتاتورية الظالمة المستبدة ، فهو عيد الحرية والتحرر ، وهو بذلك يعبر عن تعطش الجماهير للحياة الجديدة السعيدة . ونوروز عيد لدى جميع الكورد من دون استثناء . يشير العلامة المرحوم توفيق الى طقوس هذا العيد في القرون الماضية بما يلي : كان أهالي السليمانية يخرجون من المدينة صبيحة هذا العيد ، ثم يلتئم شملهم في موضع الحفل ، وهناك يتوجون أحدهم ملكاً يعينون لهُ حرساً وبطانة . ويمتطي الملك ظهر ثور، ويشق به الجموع الحاشدة تتبعهُ بطانتهُ نحو سرادق ضربت في الخيام ، فيجلسُ المحتفلون في الدواوين وتنصب قدور الطعام . ويتنكر أفراد مخصصون ويلبسون جلود الغنم والماعز ليمثلوا الحيوانات الداجنة طوال فترة الاحتفالات التي تستمر ثلاثة ايام كاملة . وتكون طاعة الملك المتوج طاعة عمياء وله أن يفرض غرامات وإتاوات عن الناس حاضرهم وغائبهم ، ويظل متمتعاً بلقب ( الباشا) الى مناسبة العيد التالي .
تقاليد كوردية /
ما أن تحصد- في موسم الحصاد- ملء كف من سنابل الحنطة في حقل من الحقول حتى تقشر وتقدم لأول عابر سبيل غريب عن أهل المنطقة هدية ، وعلى هذا الغريب أن يقبل الهدية ويقدم للحاصد قطعة فضية أو ذهبية . ولا يعد هذا من سبيل الاستجداء مطلقاً فهي عادة قديمة ترمز الى مشاركة المسافر في فرحه أول ثمرات الارض . الكورد لا يغلطون او يتصايحون فيما بينهم عند الكلام ، لكنهم معتادون على الصياح المفاجىء والصراخ . فإذا أراد كوردي ان ينادي آخر ، او يجذب انتباهه اليه صاح بأعلى صوته ((هو حه مه كه هو- بتطويل النداء- حه مه كه هو ، هو ، هو ووررا، ووررا)) فيجيبه المنادي بالصيحة نفسها ، هكذا ينادي الكورد بعضهم بعضاً من تل الى تل
الرقص والأغاني الكوردية /
الرقص او الدبكة الكوردية ممارسة واسعة الانتشار في المناسبات والأفراح ، انواعها بالعشرات ، فلكل منطقة او قبيلة رقصاتها الخاصة رغم تشابه بعض الحركات إلا أن لكل رقصة اسلوبها الخاص واسمها الخاص . لكن جميع الرقصات الفلكلورية الكوردية تتطلب ادوات موسيقية شعبية تجعلها اكثر اثارة واصالة من الادوات الموسيقية المعاصرة ، وكل ما تتطلبه الدبكة هو الطبل والمزمار وهي آلتان موسيقيتان تختلفان عما لدى الشعوب الأخرى في شكلها واصواتها . يصطف الراقصون في صف طويل مختلط ، من الذكور والاناث ، وقد يصدح احد المغنين ايضاً مع الموسيقى ، وفي كثير من الحالات يمسك قائد السرب الراقص منديلاً زاهياً بيده يهزه مع نغمات الاغنية الراقصة ، وتقام الرقصات الشعبية في المناسبات فقط ، منها الزواج والختان وعيد نوروز وعند خروج الناس للتنزه ، وفي حالات الولادة والمناسبات الوطنية . وقد اشار المرحوم محمد توفيق وردي الى ان هناك ثلاثين نوعاً من الدبكات الكوردية ، اسهلها واشهرها هي (اليسارية) أي تحرك الرتل الراقص نحو اليسار بايقاعات سهلة ، وهناك دبكتان خاصتان بالفتيات الباكرات[/size
[size=24]
]الغناء الكوردي /
أما الغناء الكوردي فهو اقدم انواع الادب الفلكلوري فهو من الفنون القديمة قدم الانسان في جبال كوردستان . ولعل اغاني الرعاة هي الاقدم عمراً من اغاني سكان القرى الزراعية التي ظهرت فيما بعد . ويعتقد البعض بأن الاغنية او التراتيل الدينية هي الاقدم في المجتمع ، مع ذلك فكل هذه الاغاني والتراتيل الشعبية كانت تعكس المشاعر والاحاسيس والعاطفة والحسرات باختلاف المناسبات والتقاليد .
الالعاب الشعبية الكوردية /
الالعاب الشعبية عديدة لا يمكن سردها بأجمعها هنا . فهي تمتد من المصارعة والالعاب الميدانية والالعاب المسلية الى العاب القدرات الذاتية الفذة ، والعاب الذاكرة والنسيان والفروسية واطلاق النار والمحيبس وامثالها ، ولعل اطرف الالعاب الشعبية الكوردية هي ما يعرف بلعبة (رفع الميت بأربعة اصابع) ملخصها : يشترك في هذه اللعبة خمسة لاعبين احدهم يحيل نفسه ميتاً ويمتد على الارض . اما الاربعة الاخرون فيتوزعون : اثنين على يمين الميت واثنين على يساره ، ثم يبدأ احدهم بالهمس في اذن الثاني ويهمس الثاني بأذن الثالث وهكذا الرابع وعند الانتهاء من كلمة السر يضع كل واحد منهم اصبع السبابة تحت ظهر الميت ثم ينشد الاربعة : واحد منا واثنان منهم اثنان منا وثلاثة منهم ثلاثة منا واربعة منهم اربعة منا وخمسة منهم لنذهب الى ملك الجان لنقل له : لقد مات عندنا رجل نريد ان نرفعه الى اعلى . عندئذ يقوم الاربعة معاً بالصفير ويرفعون الميت بسهولة ! لكن شريطة ان لا يرددوا عبارة (بسم الله) وان لا يضحكوا .
الأسماء الكوردية /
هناك مسألة طريفة في بعض الاسماء الكوردية في بعض مناطق كوردستان ، وهي ظاهرة ملفتة للنظر لغير الكوردي ، اذ تشيع هناك ظاهرة اختصار اسماء الاشخاص عند الكورد او استخدام الاختصار للتحبب ، وان كان بعضها يختلف عن الاسم الاصلي ، فـ (حمه) هو من (محمد) و (رمه) من (رمضان)، و (ره شه) من (رشيد) وهناك مختصرات مشابهة كـ (عبه) من (عبد الله ) و(بله) من (ابراهيم) و (خوله) من (محمود) . و (مجه) من (مصطفى) و (ناله) من نادر و (قاله) من (قادر) . وتشيع ايضاً مع الاسماء صفة النعوت مثل (احه ره ش) أي احمد الاسود او الاسمر و (حمه شين) أي محمد ذو العينين الزرقاوين و (مجه بجكول) أي مصطفى الصغير .
التصوف في كوردستان /
كانت الحياة الصوفية ومذاهبها تحتل حيزاً رحباً من الحياة اليومية في كوردستان ، ففي كوردستان تسود طريقتان صوفيتان رئيستان هما : القادرية والنقشبندية . أوجد الطريقة القادرية المولى الشهير الشيخ عبد القادر الكيلاني ( الجيلي) 1077- 1166 وظل سليل المؤسس يناط به منصب شيخ الطريقة وسادن الحضرة في بغداد وكانت الحكومة العثمانية تخلع عن هؤلاء بالتعاقب الوظيفي لقب (نقيب الاشراف) وتنتشر هذه الطريقة في مناطق عديدة ابرزها السليمانية واربيل . وفي كوردستان يطلق على اتباع الطريقة القادرية باسم الدراويش . وكان من رجالاتها البارزين في السليمانية كاك احمد الشيخ والد الشيخ محمود الحفيد . اما الطريقة النقشبندية فقد اوجدها محمد بهاء الدين البخاري 1317- 1389 وقد انتشرت هذه الطريقة في الجزء الشمالي من كوردستان وفي سوريا ومصر . ويطلق على مريدي هذه الطريقة اسم ( الصوفية) . وكان ابرز شيخ لهذه الطريقة في عام 1820 هو مولانا خالد النقشبندي ، وفي عام 1921 كل من الشيخ علي حسام الدين ته ويله وشيخ علاء الدين بياره .
الملابس الكوردية /
لباس الكوردي فريد ومتنوع وخاص ، هو نتاج البيئة الجبلية واعمالها الشاقة وطبيعتها الخلابة الزاهية . وهو فوق كل ذلك لباس مكلف مادياً ومتعدد اللوازم والحاجات . غطاء الرأس : يتكون من الطاقية او (الكلاو) او (التبلة) وهي قبعة صوفية قوية ، ويلف حولها (الميزر) وهي عمامة تتألف من الطاقية يلف حولها قطع قماش مربعة (جامانة) او (مشكي) او (جفته) بحسب نوعها . اما لباس الكوردي فيتألف في العادة من قميص قطن ابيض ذي أردان طويلة وسروال (شروال) فضفاض وسترة تتقاطع من الامام فوق البطن ومطوية في السروال . ويلف الكوردي حول خصره قطعة طويلة من القماش يبلغ طولها مابين 4 - 5 أمتار (الحزام) وعندما يلف يشغل المساحة الكائنة بين الخصر والبطن . كما يلبس فوق سترته معطفاً من اللباد الخشن ابان الطقس البارد ، واللباس الكوردي نوعان (الشال والشبك) او (الرانك والجوغة) . ويختلف النوعان من حيث القماش المستخدم او الموديل او التفصال . ولابد من الاشارة هنا بشكل خاص الى الحزام الكوردي فهو يستخدم في كل مناطق كوردستان لكن طوله وشده يختلف من منطقة الى اخرى ومن قبيلة الى أخرى ، ولهذا الحزام ضمن البيئة الجبلية لكوردستان فوائد شتى منها :
1. يشد من عضلات الظهر والبطن عند اداء الاعمال الصعبة والشاقة وفي تسلق الجبال العالية .
2. يحمي الظهر والبطن من البرد .
3. يتحول الحزام في حالات معينة الى نقالة في حالة الاصابة بالحرب او عند نقل الامتعة .
4. يحمل العتاد والخنجر .
5. فضلاً عن خاصيته الجمالية الجذابة وطابعه الكوردي فهو مكمل للزي الكوردي وهو جزء مهم منه والذي بطبيعته هوية قومية مميزة للكورد .
ملابس المرأة الكوردية /
أما ملابس المرأة الكوردية فهي ملابس زاهية مثل زهو البيئة الربيعية الجبلية لكوردستان . وأبرز ما يميز هذا الزي هو الرداء الملون اللماع الفضفاض الطويل ، والزخمة الذهبية المحلاة بأقراص فضية أو ملونة ، ثم السروال الطويل الذي تتناغم ألوانه في أطرافه السفلى مع لون الرداء الفضفاض . والشائع هو أن تحتفظ المرأة مع زيها بغطاء مميز للرأس محلى بالحلي والمخشلات . ومن محاسن ومكملات زي المرأة الكوردية هي الاكسسوارات الذهبية أو من الأحجار الكريمة والخرز التي تضفي لهيئتها رونقاً وبهاءً متميزين . ختاماً للحديث عن التراث والفلكلور الكوردي حديث طويل لا يمكن اختصاره لأنه شامل لكل مناحي الحياة الكوردية بحلوها ومرها، فهناك مجال للاحاجى والملاحم والادوية النباتية وتفسير الاحلام والحزورات واخلاقيات المائدة والطعام والتعامل مع المرأة والأطفال ومجال الديوان ( الديوه خانه) . ان الفلكلور الكوردي سجل حافل يعكس لنا الحياة الاجتماعية الأصيلة والسلوك المتزن المتين لشرائح المجتمع الذي أنجب كل هذا التراث الناصع المجيد