تمر هذه الأيام ذكرى أليمة على شعبنا الكوردي وهي الهجرة المليونية التي تسببت في تشريد وضياع مئات الآلاف من العوائل المغلوبة على أمرها، وذلك بسبب سياسات النظام الدكتاتوري المستبد المخلوع تجاه أبناء شعبه، والتي لم تميز بين طفل وكهل وامرأة عجوز أو شابة في عمر الزهور، حيث جعلهم ذلك النظام المقبور حطباً لنار حروبه الشعواء وسياساته الهمجيمة والعنصرية.
واليوم يستذكر الكورد من تلك العوائل التي كتب الله لها النجاة والتي حمتها الجبال والكهوف والوديان والسهول، متحدين الظروف الجوية الصعبة والقاهرة من الثلوج والأمطار والجوع والحرمان والمرض، ومتحدين الحيوانات الكاسرة والمفترسة التي تعج بها طبيعة تلك المناطق، إضافة الى قسوة النظام وقواته الحاقدة وآلته العسكرية وأسلحته الفتاكة، حتى باتت مئات الآلاف من تلك العوائل المنكوبة بلا مأوى وبلا أمان بين ليلة وضحاها، ومن حالفه الحظ هو ذلك الذي التقط أنفاسه وتمكن من أن يأخذ معه بعض الحاجات المنزلية من فراش النوم والملابس والمواد الغذائية البسيطة، ليسد رمق الجوع والحرمان في رحلة المصير المجهول الذي رسمه لهم القدر الأعمى حيث ذهبت تلك العوائل صوب الاتجاهات المجهولة كل حسب ظروفه التي كان يعيشها في تلك المرحلة بالذات، وكم من عائلة فقدت أعزائها، فتلك فقدت زوجها، وتلك فقدت أبنائها وأشقائها معاً، ومنهم من فقد والديه ومنهم وهم كثيرون من فقدوا فلذات أكبادهم، ولكن هذا الكابوس كان كغيمة لا بد أن تنجلي، فبقت تلك العوائل تعيش مع الأمل في مستقبل يكون بعيداً فيه عن نظام فاشي دكتاتوري لا يعرف الرحمة.
إذن فلا بد أن يكون للانسان أمل كبير لغد مشرق لأن لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة، واستذكر هنا قول الشاعر الذي قال: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر" إذاً هذا هو القدر، وهذا هو الشعب الذي أراد الحياة وصنعها من جديد لكي تكون شاهداً على غدر العصر والزمان، وشاهداً على الجرائم حيث تروي كل عائلة قصتها التي عاشها أبناء الشعب الكوردي من النساء والرجال وهي كما ندونها لكم على لسان المعانانين من تلك الهجرة:
المواطن "علي رؤوف" رجل كبير السن يستذكر تلك اللحظات والأيام فيقول: أنا اسمي تلك اللحظات والأيام بـ"القاتلة" إذ ليس سهلاً على الانسان أن يترك داره ووطنه ومحلته وناسه وجيرانه، ولكن ماذا نقول للمجرمين الذين تسببوا بذلك، ويسترسل بالقول: لقد اضطررت في يوم حالك الظلام وأنا رب أسرة يبلغ تعدادها 7 بنات وولدان، إضافة الى زوجتي، لقد أضطرت الى حمل الفراش لنتوجه صوب الجبال في مناطق وعرة، وقد كانت زوجتي تعاني من مرض "الربو" الذي يقطع أنفاسها وهي في الوضع الطبيعي، وكيف ونحن نهاجر في ظروف قاسية، وبعد مسافة طويلة من المسير باتجاه ايران حيث لا يمكن الوصف كما هي الحال في حينها، استلقت زوجتي على الأرض تعبة مرهقة، إقتربت منها، فإذا بها جثة هامدة لا حياة فيها ولا حركة، وهكذا قمت أنا وبعض من العوائل التي ساقتها الأقدار الى الهروب نحو مصير مجهول، وقمنا بحفر قبر ودفنها، وقرأنا سورة الفاتحة على روحها، بينما الأطفال كانوا يتبكون من حرقة الألم، وأنا لم يكن بيدي شيء سوى إكمال الدرب كي أحافظ على عائلتي وأنا أخزن جبالاً من الألم والحسرة على فراقها وهي ذكرى لا تنسى أبداً.
أما السيدة نسرين خان فتقول عن معانتها وأسرتها في الهجرة المليونية: لقد كنت في تلك الأيام الصعبة حبلى بابنتي كويستان حيث حملنا ما تمكنا من حمله أنا وزوجي وثلاثة من أطفالي من فراش بسيط وبعض الخبز وقليل من الماء لنهاجر دارنا الى حيث لا نعلم بعيداً عن السليمانية، وكان زوجي يعاني من مرض شديد فاستجمع قوته معنا، وقادتنا الهجرة لنصل الى جبل كويستان، وأنا حامل في شهري الأخير، وكنا تعبين ومرهقين جداً، وما أن وصلت الى ذلك المكان بدأ عندي المخاض الصعب فانجبت فتاة اسميتها كويستان تيمنا باسم جبل كويستان الذي ولدتها فيه، واليوم كما هي حال شقيقاتها فهي متزوجة وتعيش في أربيل، ودائماً تطلب مني أن أحدثها وأروي لها عن تلك الأيام وتلك الولادة الصعبة في تلك الظروف الأكثر من صعبة التي ولت ولن تعود إنشاء الله.
وعن صعوبة وظلام تلك الأيام، يقول كاك أحمد عبدالله وهو صاحب ورشة تصليح السيارات في مدينة السليمانية: كنا في تلك الأيام الصعبة مع والدي وأشقائي وشقيقاتي وعددنا 8 ولا تتجاوز أعمارهم بين 6-10 سنوات، حيث كان والدي يجمع الأغراض من بطانيات وبعض الملابس استعداداً للهجرة والرحيل بسبب ظلم وسياسات نظام صدام البائد، حيث كانت والدتي تتحرك بسرعة هنا وهناك لتجمع ما يمكن حمله وهي حامل بأخي الصغير محمد، ولا أنسى ما تعرضت له رحمها الله، فتم نقلها الى إحدى الدور، وبسرعة قامت إحدى النساء بتوليدها لإخراج الجنين قبل أن يموت هو الآخر، وفعلاً تم ذلك وولد أخي محمد، ولكنه وبعد أن كبر اتضح انه مصاب بالصم والبكم نتيجة الصدمة في رأسه، ولكننا لا ننسى ذلك اليوم الذي فقدنا فيه أمي ودارنا ومحلتنا، ونتمنى من الله أن لا تعود تلك الأيام السوداء، وأن تكون فقط لذاكرة الأجيال القادمة لكي لا تنسى جرائم ذلك النظام الدكتاتوري الحاقد.
وعن ظروف عائلته في تلك الأيام يقول المواطن كارزان نامق "لا يمكن لنا أن ننسى ولو للحظة ما مررنا جميعا به، حين تشردت مئات الآلاف من تلك العوائل التي كنا جزءاً منها، حيث جمعنا والدي وجدتي الكبيرة في السن حيث استجمعت العائلة بعض البطانيات والملابس والماء والخبز، وخرجنا في ذلك اليوم الأسود متوجهين الى القدر المجهول والمصير المحتوم، وبعد مرور ساعات طويلة من السير مع أهلنا بدا علينا التعب والاعياء والجوع والعطش، وتبين انه لا توجد لدينا قطرة ماء نشربها ونحن كنا أطفالاً لا نشعر بما يعانيه الكبار، حيث قامت جدتي رحمها الله باتباع حوافر أقدام البغال والحمير التي تسير في الطريق وبدأت تلك الحفر تروينا من الماء الذي يتجمع في تلك الحوافر لنرتوي منها، واحداً بعد الآخر وهي من الأشياء التي لا ننساها على الإطلاق، لأن أهلنا كانوا يسعون لأن يحافظوا على حياتنا من الموت والخوف والألم وهم اليوم برقدون بسلام في قبورهم، بعد أن أدوا رسالتهم في الحياة وهذه هي الأقدار التي صنعت منا رجالاً ينظرون الى المستقبل بتفاؤل، ولا ينسى أحدنا عبق التاريخ الصعب الذي مر به جميع الكورد.
وهناك عشرات بل مئات القصص التي ستتحدث عنها الأجيال، جيلاً بعد جيل، وزمن بعد زمن، وتاريخ تلو تاريخ، ليتحدثوا عن بطولات وصمود شعب بكامله أمام غدر الزمن وظلم الدكتاتورية البغيضة التي لن يرحمها التاريخ مهما مرت الأزمان والأحداث.